إلى أين؟
رجع الشاب من الميدان….
رجع من الميدان وكان يشعر بالأمل والكبرياء والقوة.
ولكن….
بنفس الوقت كان يشعر بالخوف والحزن قد يكون أقوى وأعمق…
بحقيقة الأمر كان يملأه الشعور الثاني المُوتِّر للأعصاب حتى يكاد يخنقه. سأل نفسه بصوت خفيف متردد للغاية “إزي ممكن التصرّف ده…وفي وسط الثورة!”
في الأسبوع الماضي لم يكن يصدق بأنه من الممكن للنظام أن يسقط. هذا شيء خيالي ينتمي إلى بيئة الأحلام. فقد حكم مصر هذا الحمار من عقود، وبلا شك كان من البديهي أن أبناءه وأحفاده سوف يحكمون بعده إلى الأبد.
ولكن فجأة اندلعت الموجة الثورية التي بدأت بقيام التاجر التونسي بإضرام النار في جسده قاصداً الاحترام. إن التونسي كان قد أضرم أكثر من جسده، بل إنه قد أشعل النار الثورية في قلوب العرب كلهم إلى حد أنه لم يعُد يقدر على الرجوع إلى الوراء.
ولما وصلت الموجه الثورية شواطئ مصر كان الشاب ينزل إلى الشوارع احتجاجاً على النظام من أجل حريته الشخصية ومن أجل الاحترام المحبوب الذي كان يبحث عنه التونسي البو عزيزي. فذهب هو وأصدقاؤه إلى التحرير وكانوا ملتزمين بالثورة وبحقوقهم الإنسانية.
وكان الشاب يعيش في الميدان ليلاً نهاراً مع الثوار الأخريين وهم يكافحون ضد القمع والظلم ويرددون الشعارات الثورية مع أخوتهم المصريين وأخواتهم المصريات ويصارعون مع قوات الأمن والبلتجية. وكان الشاب قد أحسّ بالأمل بسبب وحدة الجمهور في الميدان التي يبدو أنها لا حد لها.
ولكن….
في الأسبوع الثاني في الميدان حدثت الحادثة. الشيء الشرير الذي أصاب الشاب بالغضب وبالخوف.
كان قائماً بوسط الميدان المزدحم مع الثوار الآخرين وظهرت بجنبه بنت لم يرَها قبلاً. كانت البنت محترمة الشكل إن صح التعبير. لبست حجاباً متعدد الألوان وكانت ترفع فوق رأسها إشارة يكتب عليها “إرحل!” بخط جميل وأحمر اللون.
ابتسمت له فردّ عليها بابتسامة. وكان الشاب يفكر بأنها جميلة، فخجل من الكلام والتفت عنها. ولكنه من حين إلى آخر كان يسرق نظرة إلى وجهها.
وتقلد البنت تصرف الشاب ذاته. وبقي الاثنان لمدة كما كانا، وافقَين بجانب بعضهما البعض وسارقَين النظرات السريعة إلى وجه الآخر ويتبادلان الابتسامات البريئة.
وفجأة ظهر سرب من الشباب حولهما.. وما إن نظر الشاب على هذا السرب حتى أدرك حق الإدراك بأنه سيء النية. إنه كان سرباً شرساً بعمر المراهقة. كانوا يطوقون الإثنين ويتأملون في البنت كأنها لحمةً وكأنهم أسود لم تفترس منذ مدة.
وبصرف النظر عن أنّ هؤلاء الشباب لم يقولوا شيئاً فإنه ليس هناك شك من قصدهم. فكانوا من المتحرشين. كانوا جزء من السرطان الرهيب الذي كان ولايزال يدمّر المجتمع المصري من داخله.
قال الشاب لنفسه وكان يتصاعد غضبه تدريجياً: كيف يمكن؟ كيف يمكن في هذا المكان وفي يوم مثل هذا؟ أليس لهم أخلاق؟ أليس لهم احترام للوحدة البلد ضد الطغاة؟ أليسوا مصريين دماً ولحماً؟
الشاب كان يفكر بأن الثورة قد تمثل بداية جديدة وفرصة لتصفية الثقافة المصرية من كل التلوث الاجتماعي الذي كان قد مثل جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية تحت الظلم.
ولكن على العكس كان يبدو بأن المشكلة قد اشتدّت وحتى في وسط الثورة التي كانت قد وحّدت الناس لأول مرة من زمان….
كان الغضب يزداد في الشاب ويحمرّ وجهه. فصرخ على الشباب بصوت عالي وشديد: “وين أخلاقكم يا حمير؟! انتو مش مصريين محترمين؟ انتو ماتحترموش بلادكم العزيز؟ أخرجوا! امشوا!”
فأصبح الشاب يدفع الشباب الآخرين بقوة ولم يتوقف بعد، حتى شتتوا الشباب المفترسين واختفوا بين الجمهور.
وكان الشاب يبكي ويرتعد بشدة. كان يشعر بالحزن. وكان يشعر بعدم الأمل. وأكثر من أي شيء ثاني كان يشعر بعجز عميق يشبه إحساسه اليومي عائشاً تحت الظلم. فسأل نفسه وصوته الخفيف يرتجف: أين هي حقوق الإنسان؟ وإلى أين تذهبين يا مصر….؟
***
رسالة للكاتب:
اولا، اريد ان اشكرك قبل ابدا في التعليق، لأن هذه الكتابة نجاح كبير ومن اللازم انك تعرف ذلك.
العنوان كان الشيء الذي جعلني اهتم بهذه الكتابة. رأيت السؤال “إلى أين” وفكرت في رحلات و اماكن جديدة و مهمة و أردت أن اكتشف ما هو المكان في هذه القصة. بعد قليل من القراءة، علمت بأن مكان القصة هو ميدان التحرير في القاهرة. اطن ان ميدان التحرير مكان مهم و له تاريخ بالنسبة للثورات والصراع للعدالة بشكل عام. في موضوع أسلوب اللغة و الكتابة، استمتعت كثيرا بالكلمات القوية التي استعملتها لوصف احساس الشخصية في القصة، مثل “الامل،” “الكبرياء،” و “عجز”. ايضا كان من الذكي أن تفصل الكتابة في جمل وفقرات قصيرة، لأن تدفق أفكار الشخصية يماثل القصة. أحداث القصة تميزت بأنها موصوفة بشكل جيد (شعرت كأنني هناك مع الشخصية)، وخصوصا لانني بعد كل حدث، رأيت كيف أثرت الشخصية في العقل. فعلا ليس عندي كثير من الافكار لتحسين هذه القصة، لانني احببتها كثيرا، و لكن اردت ان اعرف اكثر عن حياة و تاريخ الشخصية الرئيسية في القصة. شكرا مرة ثانية لكتابة هذه القصة ممتازة.
-صوفيا
شكراً جزيلاً يا صوفيا لتعليقاتك الطيبة! تُسعدني المعرفة بأنك استمتعت بقصتي البسيطة. وشكراً ثانياً لاهتمامك بفكرة تطوير الشخصية الرئيسية أكثر طوّرتها. أعتقد أنه ملاحظة ممتازة وصحيحة وسوف أعتبره بشكل جدي قبل القيام بمشروع كتابة قصة قصيرة في المستقبل.
تحياتي الطيبة
روري